BEGIN TYPING YOUR SEARCH ABOVE AND PRESS RETURN TO SEARCH. PRESS ESC TO CANCEL

السياسة التركية نحو منطقة الشرق الأوسط

إن توضيح المفاهيم و المصطلحات أمر في غاية الأهمية للتوصل إلى نتائج سليمة ومرغوبة للأطراف عند مناقشة القضايا المصيرية خاصة. ومن هذا المنطلق لا بد من تحديد مضامين „السياسة التركية“ كي لا نقع في فوضى المفاهيم والمصطلحات. و لكن هذا التحديد ليس بأمر هين كما يتصور الكثيرون لأن السياسة التركية كسائر السياسات الدولية أمر يحيطه نوع من الضبابية والغموض بجانب صعوبة الوصول إلى معلومات صحيحة وموثوقة حول الموضوع.
ومن أجل ذلك فكل ما سنقدمه في هذه الورقة ستكون عبارة عن النتائج والتحاليل التي توصل إليها أي باحث.
هناك أمر آخر لا بد من الإشارة إليه وهو أن مقدم هذا البحث باحث أكاديمي وليس بمتحدث رسمي أو حكومي يتحدث باسم السياسة التركية. الأمر الذي يجعل الموضوعية والمقاربة النقدية البناءة أمرا حتميا لا مفر منه لأي باحث يؤمن بضرورة الاحتفاظ بكرامة العلم والعلماء والباحثين والدارسين الحقيقيين.

وفي ضوء هذه الملاحظات نحاول أن نقدم ما تيسر لنا من النتائج لمناقشتها وتقييمها لصالح المنطقة ومستقبلها :
المشكلة الأولى و المفاجئة هى أن المهتمين بالموضوع قد انقسموا الى قسمين رئيسين متباينين عن بعضها كل البعد ، لأن هناك فريق يقول بأن ليس هناك أى سياسة و استراتيجية تركية محددة بجانب فريق يتحدث عن وجودها

أما الفريق الأول فيحتجون لصحة دعواهم باعتماد تركيا على استراتيجيات جاهزة و معدة من قبل الناتو و التى فرضتهاعليها الولايات المتحدة الأمريكية . الأمر الذى أدى الى غياب البنية التحتية الإستراتيجية ، الفكرية و العلمية و بالتالى غياب الكوادر المؤهلة للدراسات الإستراتيجية فى الجامعات و مراكز البحوث العلمية ، و الذى تسبب الى أن تعانى تركيا من صعوبة إتخاذ قرارات إستراتيجية حاسمة. و من جهة أخرى إن ممارسة الولايات المتحدة الضغوطات الإقتصادية على تركيا تمكنها من السيطرة عليها و التقليل من إستقلالها . و بالرغم من تبعية تركيا الإقتصادية فإنها لا تدرك أن الخطر أو التهديد هو الولايات المتحدة الإمريكية نفسها كأكبر حاجز أمام استقلالها السياسى و الإستراتيجى و ليس العراق و لا إيران و لا سورية.و لا تدرك تركيا أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد استغلال تركيا لتحقيق مصالحها فى المنطقة دون أن تعرض نفسها على المخاطرة و المغامرة ، بل تظن تركيا أن الشراكة الإستراتيجية مع أمريكا نعمة و لا تدرك أنها فى الحقيقة نقمة. و هناك خطأ آخر و هو أن تركيا لا تملك نفسها أن تعالج مشكلة حزب
العمال الكردستانى من وجهة نظر أمنية على أساس القلق لا على أساس المنطق . وأما الجيش التركى فإن الولايات المتحدة تريد أن تستخدمه أو تستغله كوسيلة لحل مشكلاتها لا لمشكلات تركيا .

و أما الفريق الآخر فانهم يرون أن هناك سياسة و إستراتيجية محددة لتركيا نحو الشرق الأوسط
و على فرض وجودها ، هناك أمور لا بد من الوقوف عندها وأسئلة لا بد من الإجابة عنها : ما هى مقومات هذه السياسة و مكوناتها ؟ الدولة ، الحكومة ، الجيش أم الشعب ؟
ثم هل هناك أهداف واضحة و خطة مرسومة و استراتيجية محددة للوصول اليها لمدى القريب و الأوسط و البعيد؟
و ما علاقة هذه السياسة بالمنظمات الدولية و التحالفات السياسية و الإقتصادية و العسكرية و مدى تأثرها منها و تبعيتها لها؟ أو بتعبير أوضح ما مدى استقلاليتها ؟
و ما هى المبادئ و القيم التى تتبناها أو تعتمد عليها هذه السياسة ؟

مكونات السياسة التركية الشرق الأوسطية
أما الدولة فإنها من أكثر المفاهيم السياسية غموضا وأكثر المؤسسات السياسية تعقيدا دون شك لأنها تحتاج لبلورتها إلى تحديد المؤسسات والأشخاص الممثلين لها: هل هي رئاسة الدولة أم البرلمان أم الحكومة أم البيروقراطية أم الجيش أم كلها؟
أما رئاسة الدولة فلم أعثر على نص رئاسي في هذا الشأن يعبر عن سياسة جمهورية تركيا ولكن هناك تصريحات وبيانات وكلمات ألقيت في مناسبات مختلفة والكثير منها لا يتجاوز أن يكون تعليقات على الأحداث الواقعة في المنطقة لا يمكن وصفها بأنها نصوص معبرة عن السياسة التركية „الشرق الأوسطية“.
وأما الحكومة الحالية فشأنها شأن رئاسة الدولة فليس هناك نصوص حكومية معبرة عن السياسة التركية نحو الشرق الأوسط إلا أن الحكومة أحسن حالا من رئاسة الدولة لأنها تقدم لنا بعض النصوص شبه الحكومية مثل البرنامج الانتخابي للحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية وأما برنامج الحكومة فأمره غريب جدا لأنها خالية عن أية إشارة إلى السياسة الشرق الأوسطية ولكن الأغرب من ذلك هو أن تكون سياسة الحزب الشرق الأوسطية منوطة بأحد مساعدي أردوغان المسئول عن العلاقات الخارجية وهو أيضا لا يتجاوز أن يتطرق إلى بعض القضايا الشرق الأوسطية دون تقديم رؤية واضحة وخطط مرسومة للوصول إلى أهداف سياسية لصالح المنطقة.
وأما الجيش ووزارة الدفاع كأنهما صندوقان مغلقان لا يعلم ما بداخلهما أحد سوى ما أدلى به رئيس الأركان وقادة القواة البرية والبحرية والجوية من التصريحات حول ما يجرى في المنطقة من الأحداث.
وأخيرا يأتي الشعب الذي ليس له كبير وزن في تحديد السياسة التركية نحو الشرق الأوسط إلا عبر الانتخابات العامة.
لا شك أن هناك مراكز القوى الداخلية والخارجية تلعب دورا توجيهيا وتمارس الضغوطات أحيانا في هذا الشأن مثل التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية والنظام البيروقراطي والإعلام ورجال أعمال وبعض المؤسسات المدنية.
مقومات السياسة التركية الشرق الأوسطية
جمهورية تركيا دولة مستقلة كسائر الدول الإسلامية ولكن استقلالها نسبي وليس بمطلق وكذلك الأمر بالنسبة لدول منطقة الشرق الأوسط لأن تأسيسها تم بيد المحتلين المستعمرين كدولة مستقلة شكليا ولكنها في الحقيقة دول تابعة وخاضعة للغرب المستعمر سياسيا واقتصاديا وعسكريا كما هو الأمر بالنسبة للجمهورية التركية لأن الاستعمار الجديد استعمار متستر ومقنع يستَتِر وراء المؤسسات والتحالفات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي و حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية والشركات ما فوق القومية والمتعددة الجنسيات. وبجانب هذه التبعية الإجبارية تبعية أخرى اختيارية نتيجة أيديولوجية التغريب للدولة. الأمر الذي يجعل الاهتمام بالشرق الأوسط هامشيا بجانب اهتمامات أخرى مركزية مثل عضوية حلف الناتو ومحاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي و الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك أمر آخر مهم وهو سيكولوجية الهزيمة التي تعرضت لها الكوادر المؤسسة لجمهورية تركيا بعد تجربة مريرة جدا وهي تمزيق الدولة العثمانية بيد المستعمرين إلى دويلات وإقامة دولة جديدة على أراضي الأناضول بعد إسقاط الدولة العثمانية التي كانت تتوزع أراضيها على ثلاث قارات. الأمر الذي أثر في نفوس الكوادر المؤسسة أثرا عميقا حيث امتد هذا الإحساس بالقلق والتخوف لمستقبل الدولة ووحدة أراضيها إلى كوادر جمهورية تركيا الحالية ومن أجل ذلك نرى جمهورية تركيا الفتية تتجه دائما إلى مستعمريه القدماء كحب المرء لقاتله أو اتقاء شر عدوه. الأمر الذي يفسر لنا السر وراء عضوية تركيا في حلف الناتو وتعاملها مع البنك الدولي ومحاولتها للانضمام إلى الاتحاد الأوربي و علاقتها الوثيقة مع إسرائيل كأكبر دولة إرهابية ممتدة للغرب المستعمر.
وأما عضوية تركيا في منظمة المؤتمر الإسلامي وتوليها رئاستها أخيرا فهي تبقى هامشية بجانب موالاتها للغرب ومنظماته وخاضعة لسياساته وقراراته. صحيح أن هناك توجها ملحوظا في السياسة التركية الخارجية نحو العالم الإسلامي عموما ونحو منطقة الشرق الأوسط خصوصا، وكان ذلك بفضل جهود الرئيس الراحل طورغوت أوزال أولا ثم بفضل جهود رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان وتأسيسه لمجموعة الدول النامية الإسلامية الثمانية (علما بأنه كان سبب رئيسى لإسقاطه من الحكم بتعاون مراكز القوى الداخلية الموالية للغرب بزعامة الجيش التركي مع مراكز القوى الخارجية) وبفضل سياسة الحكومة الحالية أخيرا. وبالرغم من هذه التطورات الإيجابية كلها ، من الصعب جدا التحدث عن مركزية منطقة الشرق الأوسط في السياسة التركية الخارجية باستثناء فترة الحكم الأربكاني و أما الفترة الحالية التي هي في عيون الكثيرين في منطقة الشرق الأوسط من أفضل الفترات فهي بحاجة إلى دراستها من قرب و بشكل أدق.
ملامح السياسة التركية الحالية نحو الشرق الأوسط
1. يبدو أن الرأي القائل بعدم وجود أي سياسة واضحة الملامح نحو الشرق الأوسط هو رأي أقرب إلى الصواب وذلك أن التوتر بين حكومة الحزب الحاكم وبين الجيش والمؤسسات الدستورية والبيروقراطية ومراكز القوى المعارضة للحكومة قائم بالرغم من قدرة الحزب على تعيين أحد من مؤسسيه رئيسا للدولة. ولعل التحدث عن „السياسات“ بدلا من سياسة واحدة أفضل لأن موقف الحكومة ورئيس الدولة من سياسة الشرق الأوسط متقاربة ومتوافقة إلى حد كبير ولكن موقف الجيش ومراكز القوى الداخلية والموالية للجيش لا يمكن وصفها بأنه متفق تماما مع موقف الحكومة ولا هو توافقي بحال. لأن الحكومة ورئاسة الدولة تتحركان ضمن أساس الموالاة للغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو والاتحاد الأوربي والتحالفات والاتفاقيات معها) وكل خطوة من قبل الرئاسة أو الحكومة تبدو وكأنها مستقلة إنما هي في الحقيقة خطوة ضمن إطار مسموح لها من قبل الغرب( أنظر الى صحيفة مليتMilliyet 13.11.2008 ) أو هي خطوات استثنائية.
2. تغلب على السياسة التركية نحو الشرق الأوسط سمة أيديولوجية الدولة العلمانية الكمالية الوضعية القومية رغم كل المحاولات بدءً من أوزال وانتهاءً إلى أردوغان وعبد الله غول لتخفيفها وتضعيفها وتغييرها. وتتسم هذه الأيديولوجية بموقفها المعارض والمعادي أحيانا لكل ما هو متعلق بالعرب والإسلام بحجة أن العرب خذلوها وطعنوا الدولة العثمانية من الخلف وأن الإسلام هو مصدر الرجعية وسبب رئيس في تخلف المجتمع ومن أجل ذلك إن العرب واللغة العربية والحروف العربية واللغة العثمانية كلها ذات دلالات سلبية عند الموالين لهذه الأيديولوجية وقد تشكلت ثقافة معادية للعرب والإسلام في فترة جمهورية تركيا في الثقافة العامة وفي الأوساط الرسمية بالتحديد بسبب أيديولوجية الدولة هذه. ولا شك أن محاولات أوزال وأربكان وأردغان في سبيل تغيير هذا الموقف السلبي كانت مفيدة ولكنها غير كافية لتصفيتها تماما إلا أن هناك تحسنا سريعا وملحوظا بفضل المؤسسات المدنية والجهود الفردية المخلصة.
3. ومن جهة أخرى تتسم السياسة التركية الشرق الأوسطية بمركزية الملاحظات الأمنية والدفاعية. ولا شك أن القضية الكردية تحتل مكانة مركزية في مسألة الأمن والاستقرار. ولا فرق بين الحكومة والجيش في اعتبارهما منطقة الشرق الأوسط مصدرا وميدان تدريب للإرهاب ناسيا أو تناسيا أن الإرهاب الأكبر هو إرهاب الدول الكبرى الذي تمارسه دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وتغافلا أيضا عن الفارق الكبير بين الإرهاب والمقاومة.
4. ومن أهم المحددات الخارجية للسياسات التركية الشرق الأوسطية هو مشروع الشرق الأوسط الكبير. الكل يعلم جيدا بأن دول مثل مصر والأردن وتركيا وقطر والمغرب لا تكتم تأييدها لهذا المشروع الاستعماري بل الكل يفتخر بتعاونه مع المحتلين المستعمرين كافتخار أردوغان بأن تكون تركيا شريكة إستراتيجية لأمريكا المحتلة وكتأكيد أحد مساعدي أردوغان في الحزب على أهمية عضوية تركيا في حلف الناتو رغم زوال الخطر الشيوعي و قيام الخطر الرأسمالي المتوحش والمفترس وكدفاعه عن إرسال تركيا وحدات عسكرية إلى أفغانستان ولبنان وادعائه أنه كانت خطوة إيجابية وليست مغامرة أو مخاطرة تعرض أرواح أبناء الشعب إلى الخطر و تصويبه لتدخل أوربي في قضية دارفور وتسميته لهذا التدخل حلا ودعما، وذلك غفلة أو تغافلا عن البعد الاستعماري لمثل هذه التدخلات ونتائجها السلبية الوخيمة. (اللافت أن حزب العدالة والتنمية يبدو وكأنه قد أحال تحديد السياسة التركية الشرق الأوسطية إلى مساعد أردوغان المذكور، لأنه عندما طلبتُ من المسئولين عن العلاقات الخارجية في الحزب النصوص الرسمية التي تنص على رؤية الحزب فيما يتعلق بالسياسة الشرق الأوسطية أحالوني إلى ما قاله المساعد المذكور لا إلى البرنامج الانتخابي للحزب رغم أنه نص رسمي يقدم لنا رؤية واضحة عن موقف الحزب في هذا الشأن و الأغرب من ذلك أن هذا الرجل ليس بخبير في الشئون الشرق الأوسطية ولا يدرى اللغة العربية وليس عنده أدنى معرفة عن المنطقة وخصائصها)
5. محددة أخرى هي مبدأ „المصلحة والمنفعة“ وهى في الحقيقة مبدأ يتحكم بالعلاقات الدولية دون تفريق بين الدول، الإسلامية منها وغير الإسلامية. الأمر الذي يجعل من الصعب التحدث عن موقف تركيا بشكل واضح ومبدئي، لأن المصلحة لا تتحقق غالبا إلا بوسائل غير مشروعة وبطرق غير أخلاقية ولذلك لا بد من التأكيد على أهمية مبدأ العدالة في العلاقات الدولية والاهتمام ب“ المصالح المتبادلة والمنفعة المشتركة“ كأساس أخلاقي و أخوى.
6. ولعل أبرز نقطة ضعف في هذه السياسة هو مجالات الثقافة والسياحة والعلم. والدليل على هذا الضعف صغر حجم العلاقات الثقافية والسياحية والعلمية بين تركيا ودول المنطقة بالمقارنة مع حجم العلاقات المذكورة بين تركيا والدول الغربية لأن الفرق شاسع بين العلاقتين لا مراء في ذلك.
7. موقف تركيا من إيران وسورية جدير بالدراسة لأنه مؤشر له أهميته البالغة في تقدير السياسة التركية نحو الشرق الأوسط. وهو موقف ذو دلالات أيديولوجية لدلالته على الشرخ بين معسكر الإسلاميين وبين معسكر العلمانيين الكماليين القوميين. أما الإسلاميون فان تأييدهم للثورة الإيرانية الإسلامية ووقوفهم بجانبها واضح، وأما العلمانيون الكماليون فموقفهم من الثورة والجمهورية الإيرانية الإسلامية كان في البداية موقفا معارضا لملاحظات أيديولوجية ولكنه تغير تغيرا نسبيا بعد ما تبينت الطموحات الاستعمارية الأوربية في وقوفهم بجانب حزب العمال الكردستاني والطموحات الاستعمارية الأمريكية بعد احتلال العراق وأفغانستان أمام أعين الناس. الأمر الذي أدى المعسكر المعارض إلى مراجعة موقفهم من إيران – ومن سورية أيضا – باعتبارهما دولتان معارضتان للسياسات الاستعمارية ومقاومتان للممارسات العدوانية في المنطقة. وأما الجمهورية العربية السورية كحليف لإيران فموقفهم منها قريبة من موقفهم من إيران. وهناك عامل آخر للتحسن الملحوظ في العلاقات التركية السورية والإيرانية وهو وقوف إيران من حزب العمال الكردستاني موقف الرافض و موافقة سورية على تسليم أوجالان إلى تركيا بالإضافة إلى اهتمام رؤساء الدول الثلاث بتحسين العلاقات ورفع مستواها اهتماما بالغا و خاصا.
8. دور المقاربة المذهبية – أعني موقف تركيا من قضية انتشار الهلال الشيعي على حد تعبير البعض – وإن كان هامشيا في نظر تركيا حكومة وشعبا إلا أن هناك محاولات بل ومخططات استعمارية لإشعال نار المذهبية في المنطقة واستخدام تركيا كبلد سني في هذه اللعبة باسم الدفاع عن أهل السنة والوقوف أمام انتشار الشيعة في المنطقة وتضعيف قدرة إيران باعتبارها أكبر وأقوى دولة مقاومة للممارسات الاستعمارية في المنطقة ولذلك نرى تركيا حكومة وشعبا تتقدم إلى الأمام لتحسين العلاقات مع إيران وسورية. الأمر الذي جعل الكثيرين في الآونة الأخيرة يتحدث عن „المثلث التركي الإيراني السوري“ أو „المثلث التركي العربي الفارسي“ وهو في الحقيقة تطور جد مهم نظرا لإثبات الدول الثلاث قدرتها على تجاوز حواجز المذهبية أو الطائفية والعنصرية التي تريد الدول المستعمرة والمحتلة استغلالها من أجل الوصول إلى أهدافها من تمزيق عناصر المقاومة وكسر معنوياتها في المنطقة. قد يبدو هذا الكلام عاطفيا أو رومانسيا ولكن الواقع يشهد على مصداقيته وأكبر دليل على ذلك الخطوات الاستراتيجية المشتركة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين تركيا وإيران وسورية.
9. السياسة التركية الشرق الأوسطية ليست بتوسعية كما يتصور أو يشك البعض نظرا لكون تركيا وريثة الدولة العثمانية و لكن ينبغي أن لا نغفل عن أمر آخر وهو محاولة جمهورية تركيا الفتية في بداية تأسيسها للتخلي عن الانتماء إلى الدولة العثمانية ولإزالة الهوية العثمانية وتصفية كل ما هو عثماني من المجتمع بجانب تبنيها مبدءاً كماليا للسياسة الخارجية وهو „الصلح في الوطن والصلح في العالم“ وهناك دليل آخر من التاريخ وهو غياب أي مشكلة حدودية بين تركيا وإيران طوال حوالي أربعة قرون وكذلك الأمر بالنسبة لسورية والعراق ودول الجوار الأخرى. أقول هذا بصفة باحث محايد، بل وبصفة معارض لبعض ممارسات الدولة والحكومة.
10. موقف تركيا الرسمي من احتلال العراق موقف مضطرب ومتردد من جهة وواضح من جهة أخرى وأما الاضطراب فلأن تركيا لم تؤكد على معارضتها للاحتلال ولم تعلن عن تأييدها ودعمها للمقاومة العراقية بل ركزت جل اهتمامها على القضية الكردية في شمال العراق، ورفضت تأسيس دولة كردية مستقلة هناك رفضا قاطعا وأكدت على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق ولم تر بأسا من جهة أخرى في التعامل مع الحكومة الخاضعة للاحتلال ولكن الواضح كل الوضوح هو أن تركيا سمحت للمحتل أن يستخدم قواعدها العسكرية الجوية بالرغم من رفض البرلمان اقتراح قانون يسمح للمحتلين استخدام أراضيها للتحركات والعمليات العسكرية ومن المعلوم أيضا أن الطائرات الأمريكية قامت بآلاف غارة والطلعات على العراق لقصفها وهدمها إقلاعا من القواعد العسكرية التركية وتم إرسال الأسلحة والمواد اللوجيستيكية إلى العراق عن طريق ميناء إسكندرون. وأما الحكومة الحالية والجيش التركي لم يتحركا أبدا لإغلاق قاعدة انجرليك وميناء إسكندرون بوجه المحتلين ومنه استخدامهما، بل أصدرت حكومة أردوغان قرارا بتاريخ 01.09.2004 يسمح لأمريكا استخدام سبعة موانئ عسكرية ومدنية وستة قواعد جوية عسكرية ومدنية لاستيراد الأسلحة والمواد اللوجستيكية العسكرية وذلك بالرغم من معارضة الشارع التركي للاحتلال والسياسات الأمريكية المستعمرة في المنطقة علما بأن نسبة المعارضين في تركيا للسياسة الأمريكية في المنطقة تبلغ أكثر من 80% من المجموع حتى في الاستطلاعات الأخيرة.
11. وكذلك موقف تركيا من إيران في مسألة الأسلحة النووية موقف متردد بين الموافقة والمعارضة ولكن الأمر الواضح هو أن تركيا لم تخضع ولم تستسلم لضغوطات أمريكية لإقناعها على ضرورة التدخل العسكري الموجه إلى إيران و اكتفت بتصريحات نمطية بأنها لا تريد في المنطقة إلا سلاما وأمنا واستقرارا.
12. وأما موقف تركيا الرسمي من الإرهاب الدولي فيبدو قاصرا على اهتمامها بإرهاب حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا إلا أن هناك أمرا لافتا للنظر جدا، وهو أن البيروقراطية المدنية والعسكرية وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان يصرون على تصنيف حركات المقاومة ضمن الإرهاب ويتحفظون تحفظا ملحوظا من التحدث عن إرهاب المحتلين المستعمرين في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان وهذا مؤشر له أهميته البالغة في فهم طبيعة السياسة التركية الشرق الأوسطية.
13. وأما موقف الشعب التركي والرأي العام من الأحداث والتطورات في المنطقة فهو موقف مخلص دفاعي عن الدول الشقيقة أمام أية تدخل عسكري وأية ممارسات استعمارية بحيث لا تلقى في الشارع التركي أحدا يؤيد احتلال العراق وأفغانستان من قبل أمريكا وإنجلترا واحتلال الأراضي الفلسطينية من قبل النظام الصهيوني سوى بعض أقلام عملاء لأمريكا في الإعلام التركي.
إسقاطات مستقبلية واقتراحات عملية
1. ضرورة تطوير العلاقات السياسية و الاقتصادية والثقافية أكثر وتأسيس جسور وقنوات مباشرة وخاصة على المستوى المدني نظرا لاستمرارية الشعوب ووقتية الحكومات.
2. تطوير مفهوم „الدبلوماسية المدنية“ بجانب الدبلوماسية الحكومية الرسمية انطلاقا من أن العلاقات المدنية أسرع وأيسر وأبقى من العلاقات الرسمية وأكثر حرية واستقلالا.
3. تشجيع المثقفين والنخب على تعلم اللغات الثلاث في البداية وهي اللغة العربية والفارسية والتركية لتسهيل الاتصال والتواصل في كل المجالات.
4. توجيه وتوعية الرأي العام في دول المنطقة لممارسة الضغوط على النظم والسلطات والحكام عند الحاجة أو الضرورة كي لا تقدم على اتخاذ قرارات تهدد مستقبل المنطقة وتشكل خطرا لها أو تفسد العلاقات الأخوية بين دول المنطقة.
5. توعية الجماهير وخاصة الشباب وتوجيههم نحو فكرة المعارضة والمقاومة واتخاذ موقف نقدي أمام التطورات والأحداث الواقعة في المنطقة منعا لانتشار ثقافة الطاعة المطلقة والتبعية والخضوع والاستسلام فيما يتعلق بمصير الأمة ومستقبلها.
6. ضرورة تطوير مفهوم „حلف الفضول المعاصر“ وترجمته إلى الواقع للوقوف ضد الموجات الاستعمارية المتوجهة إلى المنطقة وإلى العالم الاسلامي ككل و ذلك بالتفاف الجماهير دون تفريق بين مسلم ومسيحي وسني وشيعي وعربي وفارسي وتركي وكردي حول قاسم مشترك من مبادئ أخلاقية سامية وإنسانية وإسلامية أيضا؛ مثل الوقوف ضد هجمات استعمارية وموجات الرأسمالية العالمية وثقافة المجتمع الاستهلاكي ومثل محاربة الطائفية و التمييز العنصري و الجنسي والفساد بكل أنواعها والبطالة والنفعية والأنانية ومثل تأسيس العدالة الاجتماعية في مجتمعات المنطقة.
وأخيرا: نحن أبناء الأمة الإسلامية وورثة الحضارة الإسلامية بحاجة ماسة وحيوية إلى وحدة الأمة والوطن والثقافة والأهداف والعمل في فترة تاريخية تحاول القارة الأوربية تشكيل أمة مسيحية باسم „الإتحاد الأوربي“ وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية يمكن اعتبارها أمة غربية أخرى ولكن العالم الإسلامي في غفلة عن أمته الأصيلة الجاهزة بين يديه و لأنها أمة فاقدة الوعي حتى تقدر قدر نفسها ولكن الوعي سرعان ما ينتعش إذا تهيأت له الظروف المناسبة. وأما وحدة الوطن فهي جاهزة أيضا لأننا كورثة الحضارة الإسلامية نملك وطنا من المغرب إلى أندونيسيا وماليزيا ومن آسيا الوسطى إلى اليمن وجنوبا إفريقيا وأما الأمة فهي أمة جاهزة أيضا لا ينتمي إليه المسلمون سنة وشيعة فقط، بل أصحاب المعتقدات والأيديولوجيات الأخرى من المسيحيين وغيرهم وكذلك من اليساريين و الليبراليين والوطنيين لهم حق الانتماء لهذه الأمة الإسلامية لأن الإسلام وإن كان دينا وثقافة وحضارة للأغلبية فإنه ثقافة وحضارة لمن لا يعتقدها دينا وعقيدة. ما دام وطننا واحد وتاريخنا واحد وحضارتنا وثقافتنا واحدة ولماذا ننتظر لإعادة بنائها من جديد؟