الرحيـــــــــــــــــــم
د. محمد خيري قيرباش أوغلو
مركز إسهامات المسلمين في الحضارة
كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة
تعد الإعلانات التجارية اليوم – مرئية كانت أم مسموعة أم مكتوبة – بمثابة الشرايين للمؤسسات التجارية ، غير أن دور الإعلانات يتجاوز- كثيرا – الملاحظات التجارية البحتة (مثل تقديم معلومات عن المنتجات و التعريف بها) ، إذ تتحول إلى وسائل و آليات أيديولوجية لتوجيه سلوك الجماهير . و من أهم مظاهر هذه الظاهرة هو تحول الإعلانات إلى نوع من غسيل العقول لخلق حاجات افتراضية وهمية غير حقيقية من أجل نشر ثقافة الاستهلاك المفرط و التبذير و النمط الاستهلاكي الجنوني .
و من جهة أخرى يلاحظ أن الإعلانات تلعب دورا سلبيا في توجيه سلوك المشاهدين و المستمعين و القراء بسبب اهتماماتها، بل انهماكها و إصرارها في عرض صور غير واقعية عن الحياة اليومية ، و هي في الحقيقة صور موهومة أو افتراضية . و كذلك الأمر بالنسبة لعرض لقطات تدور حول أمور جنسية وشهوية إلى درجة أن البضائع أو الخدمات المعروضة تختفي في ظل هذه الصور . ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل يتعدى إلى استهداف الناشئين لتوجيه سلوكهم بقيم و مبادئ و تصرفات – أغلبيتها الساحقة غربية – مخالفة لثقافات المجتمعات الإسلامية و قيمها و عاداتها ، علما بأنه لم يبق اليوم ، كبير فرق بين إعلانات الشركات و المؤسسات ذات التوجه الإسلامي و الشركات العلمانية و الرأسمالية إن صح التعبير .
هناك أمر آخر لا يقل أهمية عما ذكرنا من السلبيات وهو أن مجال تعليب المنتجات الغذائية و تغليفها معرض على كثير من الممارسات غير الشرعية و الأخلاقية بالرغم من وجود القوانين و اللوائح الرسمية التي تمنع مثل هذه الممارسات مثل طبع المعلومات عن المنتجات الغذائية على العلب بحروف و أرقام غير قابلة للقراءة بالعين المجردة و بدون عدسة حيث يؤدي إلى تضليل المستهلك و خداعة بالنسبة لمحتويات المنتجات الغذائية و خاصة فيما يتعلق بمواد غذائية معدلة وراثيا .
ومن اللافت للنظر أيضا أن العالم الإسلامي لم يعلن للعالم حتى الآن نصا أو مجموعة مبادي حول (أخلاقيات الإعلانات) كما قدم الفاتيكان قبل مدة نصا باسم التعاليم الكاثوليكية بعنوان :(ETHICS IN ADVERTISING)
و هناك قضايا و مشكلات كثيرة في هذا المجال الخطير جدا نظرا لأبعادها القيمية والسلوكية والايديولوجية ، فالورقة ستدور حول هذه المحاور و سترتكز على الإعلانات التجارية في القطاع الإسلامي دون القطاع العلماني أو الرأسمالي – إن صح التعبير- إلا إذا دعت الضرورة الى ذكر الأمثلة لهذا القطاع و ستسعى لبيان ضرورة تشكيل نص حول (أخلاقيات الإعلانات) بالمشاركة والتعاون بين المجتمعات الاسلامية لترجمتها إلى أرض الواقع إن شاء الله تعالى . و يحتمل أن يُزود البحث بنماذج من الإعلانات المصورة إن لم يكن هناك مانع قانوني .
المقدمة حول مفهوم الإعلان التجاري و المفاهيم الأخرى الشبيهة والمتعلقة به :
الإعلان التجاري : نشاط يهدف إلى التأثير في سلوك المستهلك واختياراته وإغرائه للإقبال على السلعة .
التسويق : نشاط الأعمال الذي يوجه انسياب السلع والخدمات من المنتج إلى المستهلك أو المستعمل .
الترويج : نشاط تسويقي ينطوي على عملية اتصال إقناعي يتم من خلالها إبراز المزايا النسبية الخاصة بسلعة أو خدمة أو فكرة أو حتى نمط سلوكي معين بهدف التأثير على أذهان أفراد جمهور معين لاستمالة السلوك الشرائي .
تنشيط (ترويج) المبيعات : مجموعة من الأنشطة الترويجية (بخلاف الإعلان والبيع الشخصي والعلاقات العامة والدعاية التجارية ) التي تستهدف إثارة طلب المستهلك من ناحية وتحسين الأداء التسويقي من ناحية أخرى .
ومن الأنشطة المستخدمة لتنشيط المبيعات: العينات المجانية، والكوبونات التي تستبدل بالهدايا، والقسائم التي تمنح من يحملها حق الحصول على خصم معين، والجوائز والمكافآت، والمسابقات، ونوافذ العرض (الفترينات)، والهدايا الترويجية التي تقدم لكل من يشتري سلعة معينة أو أكثر وتكون معروفة للمستهلك قبل شرائه للسلعة، والهدايا التذكارية التي تقدم لعملاء المؤسسة في شكل أقلام أو تقاويم سنوية، والعروض الترويجية والتي يتم فيها عرض السلعة داخل المتجر من خلال أفلام الفيديو، والمعارض التجارية التي يشترك في إقامتها عدد من التجار والمنتجين بهدف اطلاع الجمهور على السلع المعروضة والتعرف على مزاياها وخصائصها، والعبوات التي تحتوي على السلعة سواء كانت من الورق المقوى أو الصفيح أوالبلاستيك، والتذوق المجاني للسلعة، خاصة السلع الجديدة أو السلعة التي لا يعرفها المستهلك أو التي تكون مبيعاتها متدنية، والنشرات التوضيحية التي يعدها المنتج ليتم توزيعها على جمهور المستهلكين مثل الكتالوجات والكتيبات، ورعاية المناسبات من قبل المؤسسات والشركات وغيرها بهدف إثبات وجودها في خدمة المجتمع المحلي .
الدعاية (النشر الدعائي) : النشاط الذي يهدف إلى التأثير في آراء واتجاهات ومواقف فئات المستهلكين تجاه سلعة أو خدمة أو موضوع ما .
الدعاية التجارية : تتخذ أشكالاً متعددة، فقد تقتصر على خبر قصير يعبر عن مشروع أو سلعة جديدة منتجة أو سلعة أضيف إليها بعض التحسينات، وقد تتخذ صورة مقالة مطولة، أو قد تكون في شكل صورة فوتوغرافية يتبعها شرح لها، أو عدد من الصور بالإضافة إلى المقالة .
وتختلف الدعاية عن الإعلان التجاري في عدة أمور، منها :
1. الدعاية تكون مجانية لما تحتويه من أخبار يرى صاحب وسيلة النشر أنها تهم القارئ، بينما يعد الإعلان التجاري جهدًا مدفوع القيمة.
2. الدعاية ليس لها هدف اقتصادي محدد، أما الإعلان التجاري فله هدف اقتصادي وهو تحفيز
المستهلك ودفعه نحو شراء السلعة.
3. فرصة نشر أو إذاعة الدعاية تكون لمرة واحدة، أما الإعلان التجاري فيمكن نشره وإذاعته
عدة مرات.
4 – تقتصر وظيفة الدعاية على تعريف الجمهور بحدث معين دون محاولة الإقناع، أما الإعلان التجاري فيهدف إلى تحقيق وظيفتي التعريف والإقناع .
الإعلان التجاري في الاقتصاد الإسلامي يهدف إلى إرشاد المستهلكين إلى السلعة أو الخدمة أو الفكرة أو المنشأة، وبيان خصائصها وفوائدها لهم بمصداقية عالية بعيدًا عن أساليب التأثير والإغراء والكذب والخداع. وبهذه الخاصية يختلف الإعلان التجاري في الاقتصاد الإسلامي عن الإعلان التجاري في الفكر التسويقي ، فالأول لا يعد نشاطًا دعائيًا يهدف إلى إغراء جمهور المستهلكين والتأثير على اختياراتهم بهدف دفعهم للإقبال على السلعة أو الخدمة أو الفكرة أو المنشأة كما هو حال الإعلان التجاري في الفكر التسويقي.
أما عناصر الاعلان التجاري ، فهي أربعة : المعلن والرسالة و وسائل الاعلان و المعلن إليه .
1 – المعلن :
إن المعلن هو مجموعة متنوعة و مختلفة من المنتجات و الخدمات المعروضة لبيعها و شرائها أو اكتسابها واقتنائها إلا أننا سنتناول بالدراسة هنا أنواع المعلن الذي يتم إعلانه بطرق مخالفة للمعايير و المبادئ الاسلامية . و يمكن تصنيف المعلن المقصود به هنا تحت عناوين رئيسة كما يلي :
– المواد الغذائية المعدلة وراثيا والمواد الغذائية الجاهزة والمعلبة والوجبات السريعة التي تحتوي على مواد كيميائية والمضافات الغذائية المثيرة للجدل التي يتم استخدامها على نطاق واسع للحفظ و التلوين و التحلية و النكهة و غير ذلك و الجلاتين و منتجات اللحوم التي تحتوي على لحم الخنزير والحصان والحمير و عظام الدواجن المطحونة و جلودها .
– المشروبات الغازية التي تؤدي الى زيادة الوزن والى الأمراض الأخرى و التي بدأت الدول الغربية تأخذ التدابير للحد من استهلاكها من قبل الأطفال و الشباب الناشئين . و يضاف الى ذلك استغلال العواطف الدينية في شهر رمضان في كل سنة (موائد الإفطار و المساجد و الأذان و الجد والجدة المحتجبة مع احفادهما وغير ذلك من الصور و المشاهد التي لها علاقة بالحياة الدينية ) والمشروبات التي أصلها كحولية و لكنها يتم تسويقها بأنها خال من الكحول كالبيرة و مشروبات الطاقة التي لها تأثيرات جانبية للصغار و الأطفال خاصة .
– المشروبات الكحولية (كإعلانات بعض المشروبات الكحولية في مجلة الخطوط التركية التي يديرها البيروقراطيون الملتزمون)(!)
– الإعلانات عن (القمار و ألعاب الحظ و اليانصيب ) في البلاد الإسلامية و بيد البروقراطيين الملتزمين .
– إعلانات عن (العلاج بالأعشاب و المواد الطبيعية غير المصنعة) دون ترخيص من الجهات المسؤولة الموثقة بها (في كثير من القنوات الإسلامية(!) سواء أكانت تركية أم عربية) .
– الأدوية والمنشطات والأعشاب ومستحضرات التجميل والمواد المتعلقة بالصحة دون الحصول على ترخيص من وزارات الصحة.
– مستلزمات النظافة الشخصية مثل الشامبو والصابون السائل ومزيل العرق وغير ذلك .
– الكماليات والسلع الفاخرة و وسائل الترف ( اشتر غرفة القصر و احصل على غرفتين ) و الشقق و الفلل الفاخرة و السيارات الفاخرة و الملابس و الأزياء و الأكسسوارات الفاخرة .
– الإعلانات التجارية اللبنوك الربوية بشكل مباشر او غير مباشر (مثل إعلانات تجارية عن الأثاث و إمكانية التقسيط ببطاقات ائتمانية للبنوك الربوية والإعلانات عن مكاسب بمضاربة بالأسعار(speculative gains ) مثل الإعلانات التي تتعهد أرباحا بمعدل %600 للذين يتعاملون ب(فوركس و فوركس الإسلامية وفوركس لا ربوية ) .
– إلكترونيات (الجوالات و التلفزيونات وغيرهما بجميع أنواعها ) و إثارة الناس لاستخدامها من أجل المتعة والتسلية والإكثار من الكلام فقط ، لا لشيء آخر ، ليضيفوا أرباحا الى أرباحهم .
مذهب المتعة و اللذة (HEDONISME) و مظاهره : الأكل و الشرب و الرقص و الغناء و القصور والسيارات و اليخوت الفاخرة و التجميل (الأشعار والجلد و الوزن و المكياج ….)
2 – الرسالة و ناقلاتها :
الاعلان التجاري هو في مجمله نشاط تواصلي يهدف إلى إيصال رسالة ما إلى المستهلك و يقوم بنقل الرسالة من خلال استخدام وسائل ووسائط وناقلات بالاعتماد على عناصر مختلفة أثناء عملية هذا النقل و من أهمها :
لغة الكلام و الجسم الموحية و المومئة بالجنسية و استخدام المرأة الشابة الجميلة الجذابة و العريانة بنسب مختلفة و استخدام لغة الشارع و اللغة العامية المبتذلة :
مما لا مجال للإنكار أن عرض صور الفتيات الجميلات والسيدات الأنيقات و النساء العصريات في الإعلانات التجارية ، ظاهرة منتشرة في العالم كله و في العالم الإسلامي كجزء منه ، حيث أصبحت المرأة جزء لا يتجزأ من الإعلانات التجارية و من ضرورياتها و من أهم عناصرها . و ذلك لاكتشاف الرأسمالية دور المرأة الأساسي في لفت انتباه المشاهدين و القراء باستغلال المشاعر و الرغبات الجنسية . ويمكن القول بأن صور المرأة على الأوصاف المذكورة ، لها نصيب الأسد في الإعلانات في جميع العالم و لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد ، بل تجاوزه الى أن تحول المرأة من وسيلة و واسطة لنقل الرسالة الى المقصد والهدف و الغرض لدرجة أن السلع و الخدمات تختفي في ظل صور المرأة المختلفة في الاعلانات التجارية و لا يملك إنسان أن يتساءل : أين السلع أو الخدمات في الاعلانات ؟ و لا ينتبه الى المعلَن إلا بعد إيلاء اهتمام خاص بالإعلانات .
و من اللافت أن وكالات الإعلان لا تستغل جسم المرأة أو بدنها ككل فقط ، بل عندها خبرة و دراسة عميقة في أساليب الاستغلال مثل تفننها في التكبير والتركيز على الأجزاء الأكثر لفتا لجسمها كأن تركز على صدرها المكشوف أو على شفتي المرأة الجذابة التي تلعق أو تعض بوظة أو شوكولا أو بسكويتا مثلا .
ولا تكتفي وكالات الإعلان باستغلال المرأة جسمًا و بدنًا ، بل يتم استغلالها من حيث لغة الجسد بجانب الجسد نفسه و ذلك بنظرات استفزازية تلمح الى الجنسية و تجر خيال المشاهد الى عالم العلاقات الجنسية المحرمة .
وكذلك يتم استخدام صور الرجل الوسيم و جسده العاري على نسب مختلفة، فهو أقل بكثير بالنسبة لاستخدام المرأة في الإعلانات. و أما المجموعة المستهدفة في هذه المرة فهي عالم الفتيات والنساء لا عالم الشباب و الرجال كما هو الأمر بالنسبة للإعلانات التي تعتمد على عرض صور المرأة الجذابة.
هذا من جهة الجنسية وأما من جهة هاجس المظهر والجمال ، فإن تقديمهما في الإعلانات التجارية هدفا مطلقا للجميع و مصدرا وحيدا لسعادتهم ، يعتبر تحديا واضحا لتعاليم الاسلام الذي يقدر قيمة الإنسان بإيمانه وأعماله الصالحة لا بمجرد مظهره و صورته و هيئته و زينته و ملابسه وشعره و أسنانه . لا شك أن مثل هذه الصورة التي تلقنها الإعلانات ، صورة مخالفة و معارضة لتصور الإسلام للإنسان المحترم و الفاضل : (الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) اللفظ لإسحاق بن راهوية (المتوفى سنة 238 هـ . ) في مسنده .
استغلال العواطف الدينية في الإعلانات :
و مما يتعلق بلغة الكلام و الجسم استغلال العواطف الدينية في الإعلانات من خلال اختيار لغة دينية و رموز دينية مثل اختيار مفاهيم دينية كعلامة تجارية للمؤسسات تجارية وللسلع و الخدمات. و على سبيل المثال لا الحصر : مطعم الجهاد و نقانق(سجق) التقوى و حجاب التكبير و متاجر التوحيد و زمزم كولا و مكة كولا و كولا ترقا (Cola Turka) و لحوم الوكيل والكفيل و المراد و شركة بدر أو اُحد أو شركة طيران المعراج أو البراق و ما شابه ذلك من العلامات التجارية التي تتم استعمالها دون تفكير في هذا الجانب السلبي أو دون تحفظ من الوقوع في محظور الاستغلال الديني و لو عن غير قصد .
و من أسوء الاستغلال للعواطف الدينية و أكثره انتشارا ، الإعلانات التجارية في شهر رمضان وعيد الفطر و الأضحى و سائر المناسبات الدينية مثل احتفالات مولد النبي (صلى الله عليه و سلم) و ليلة القدر و غيرها من الليالي المباركة عند الجماهير . و أما وجه الاستغلال هنا فهو أن شهر رمضان مثلا يتحول في الإعلانات التجارية من شهر الجوع (الصوم ) و الزهد والعبادة و التعاون الاجتماعي إلى شهر الشبع و سوء الهضم و الموائد الفخمة و المسرفة و الأكل و الشرب و الطرب أو بالأحرى يتحول من شهر العبادة إلى احتفال و مهرجان حتى يتسنى للشركات بيع أكبر كمية من المواد الغذائية وغيرها دون مبالاة منها بآثار هذه الاعلانات السلبية على سلوك المجتمع و على روح شهر رمضان المبارك .
طبع المعلومات على العلب و الاغلفة بحروف وارقام صغيرة حيث تؤدي إلى نوع من التضليل بسبب صعوبة قراءتها :
ان الأغلفة و العلب جزء من الإعلان أيضا و ذلك لأن أشكال العلب و الأغلفة و ألوانها و العلامات التجارية عليها من أهم عناصر التسويق و من أهم وسائل التحفيز على الشراء بجانب ما تحمل العلب و الأغلفة من معلومات عن المنتجات . و في كثير من الحالات يواجه المستهلك أنواعا مختلفة من التضليل و ممارسات مخالفة للقوانين المتعلقة بالتغليف و التعليب و الإعلانات . و من أهم هذه التضليلات و المخالفات أمران منتشران جدا و هما : طبع المعلومات على الأغلفة و العلب بحروف و أرقام صغيرة بحيث تتعذر قراءتها بالعين المجردة و خاصة لكبار السن من المستهلكين رغم أن القوانين صريحة في أن المعلومات المطبوعة على الأغلفة و العلب لا بد أن تكون على حجم يمكن قراءتها بسهولة وبالعين المجردة .
و من أكثر أنواع التضليل انتشارا أيضا ، ما يتعلق بالتخفيضات و التنزيلات و ذلك بكتابة أدنى نسبة للتخفيضات بأرقام صغيرة جدًا بجانب كتابة أعلى نسبة التخفيضات بأرقام كبيرة جدًا للفت انتباه المشاهد أو القارئ إلى النسبة الأعلى المغرية في الإعلانات و ليغفل عن النسبة الأدنى فيها و يعتقد بأن التخفيضات أو التنزيلات كلها بنسبة عالية ومرضية له . و لهذه الظاهرة العالمية أشكال كثيرة و من أكثرها انتشارا : (التخفيضات من %10 الى %50 ) مثلا . و الناظرون الى مثل هذه الاعلانات تتعلق عيونهم بالأرقام الكبيرة و تغفل عن الأرقام الصغيرة و يظنون أن جميع السلع و الخدمات يتم بيعها بنسبة عالية من التخفيضات . و لا شك أن مثل هذه التضليلات يلجأ إليها عن قصد و على وعي من وكالات الإعلان و الشركات و المؤسسات التجارية و هي بهذا الاعتبار تلقي الضوء على مشكلة اخلاقية و اجتماعية أيضا بجانب المخالفة القانونية .
استخدام الأطفال و الصبيان في الإعلانات التجارية :
و من المشكلات الأخلاقية للإعلانات التجارية على مستوى العالم ، لا على مستوى العالم الاسلامي فقط هو استخدام الأطفال الصغار و الرضع في الإعلانات التجارية و لا شك أن هذا النوع من الاستخدام يشكل استغلالا واضحا للأطفال ؛ لأن استخدام الأطفال في الإعلانات التجارية ليس أمرًا ضروريًا و إنما يتم استخدامهم لإقناع الكبار من المشاهدين مباشرة على شراء المنتج أو الخدمة أو ليقنع المشاهدين الأطفال أولياءهم على الشراء .
و مما يدل على “ الاستغلال “ أن معظم الإعلانات التجارية التي تستخدم فيها الأطفال ، غير متصلة بالأطفال مباشرة أو غير مباشرة مثل الاعلانات التجارية للبنوك والسيارات والجوالات والبيوت والفلل و مجموعة المساكن والأدوات المنزلية و بطارية السيارة و غير ذلك .
و الأخطر من ذلك استغلال الأطفال في إعلانات المشروبات الغازية التي اتخذت الدول المتقدمة تدابير لحماية الأطفال من أضرارها (مثل أضرارها للكلي و الأسنان و القلب و العظام ) بمنع استهلاكها في المدارس .
وأخطار مثل هذه الإعلانات و أضرارها لا تقف عند هذا الحد ، بل هناك آثار سلبية أكثر خطورة من سابقاتها و هي أضرار نفسية و سلوكية كتلقين الطفل و توجيهه إلى الإدمان بالتسوق و الإعالة بالاستهلاك إلى أن يعيشوا في عالم آخر افتراضي بعيد عن الواقع المعاش .
مدى واقعية الاعلانات :
لا يختلف اثنان في أن الإعلانات التجارية بجميع أنواعها تصور للمشاهدين و السامعين و القراء عالما افتراضيا مخالفا للواقع المعاش. وللتأكد من صحة هذا التحديد يكفي تتبع الإعلانات التجارية تتبعا سريعا . و من أوضح الأدلة على ذلك أن كل شيء في عالم الإعلانات ، جديد ونظيف ومرتب و فاخر ومثالي ، و الناس كلهم سعداء و منبسطون و الأزياء شيقة جدًا و الوجوه جميلة والبشرة ناعمة و المكياج ضروري والأُسر تحمل سمات الأسر الغربية العلمانية أكثر من الأسرة الإسلامية و باختصار لا يوجد في عالم الإعلانات شيء اسمه “ الفقر“ أو „الحرمان “ أو “ البؤس“ ، و إن دل ذلك على شيء فيدل على أن أصحاب الإعلانات التجارية بحاجة إلى الطبقات الغنية والثرية لا الطبقات الفقيرة .
وأعتقد أنه لا يشك أحد أيضا في أن ما تقدمه الإعلانات التجارية من صور لمختلف مظاهر الحياة اليومية إنما هي في الحقيقة صور بعيدة عن الواقع إلى حد كبير. و لا أقصد هنا الاعلانات التجارية في التلفزيونات فقط ، بل أكثر الإعلانات التجارية المرئية ، غير مطابقة للواقع و الحقيقة حتى في الإعلانات التجارية لدواجن مشوية أو الهامبورجر :
المكياج و سائر وسائل الخداع و الإخفاء و الستر :
فلنبدأ أولا بالمشاركين أو الممثلين و الممثلات في الإعلانات و مدى واقعية مظاهرهم . إذ معلوم لدى الجميع أن الذين يتمثلون في الأدوار في الأفلام الإعلانية لا يتم تصويرهم إلا بعد عملية مكياج دقيق للرجال و النساء على السواء حتى في الإعلانات التجارية للحجاب و الأزياء الإسلامية ، علما بأن العارضات للحجاب هن نفس العارضات اللواتي في الإعلانات التجارية لملابس نسائية داخلية وملابس السباحة بيكيني . و للتأكد من عدم تطابق صور الممثلين و الممثلات و العارضات مع الواقع يمكن للجميع الإطلاع على صور هؤلاء بدون مكياج في الإنترنت لمعرفة الفرق الهائل بين الوجوه بمكياج و الوجوه بدون مكياج .
و كذلك الوضع عندما يتعلق الأمر بالملابس والمنتجات الغذائية وما يتصل بهما ؛ لأن صور هذه السلع والأمتعة في الشاشات والصحف والمجلات لا تعكس الواقع تماما ؛ لا لأن الفرق طبيعي بين الشيء وصورته ، بل لأن الفرق و الاختلاف ، له اسباب أخري غير الطبيعية و هي أن هذه الصور يتم تصويرها وتسجيلها في استوديوهات بعد عملية تجميلية وتصويرية دقيقة جدا مع استخدام ملمعات وتقنيات خاصة يسميها البعض بالحيل الدعائية .
و الأهم من ذلك أنه يتم اخفاء كثير من الحقائق فيما يتعلق بالأضرار الصحية لبعض المنتجات الغذائية والوجبات السريعة تحديدا .
هذه صورة الإعلانات التجارية إلى حد كبير و قد يكون السبب في غياب صورة حقيقية لعالم خارجي هو الحرص على أن لا تحمل الإعلانات عناصر غير جذابة و طاردة و مبعدة عن مشاهدة الإعلانات التجارية أو سماعها أو قراءتها ، إلا أنه لا يجوز أن يؤدي هذا الحرص إلى نوع من التضليل و الخداع بخلق عالم مثالي وافتراضي يخالف الواقع للغاية و يقدم للناس صورة مزورة وخادعة .
عالم مثالي وهمي و افتراضي (جنة زائفة) :
باختصار شديد يمكن أن توصف الإعلانات التجارية بأنها محاولة لتقديم صور مختلفة ل( جنة زائفة ) و بهذا الاعتبار يجوز أن توصف الإعلانات التجارية بأنها نوع من الخيال العلمي من حيث عدم تطابقها مع الواقع و الحقائق ، علما بأن الجماهير من المشاهدين و الصغار منهم بالتحديد ينجرون وراء هذا العالم الافتراضي كعطشان يسعى وراء سراب في الصحراء بغية الوصول الى الماء .
الإعلانات التجارية و الغزو الفكري و الثقافي :
أعتقد أن مسؤولي وكالات الإعلانات التجارية لم تخطر ببالهم يوما أن لهم علاقة بمسألة الغزو الفكري والثقافي . و أعتقد أيضا بأنهم يعتبرون أنفسهم محترفين يقومون بمهنهم . و قد يكون هذا صحيحا إلى حد كبير و لكنه لا يغير من الواقع شيئا ؛ لأن كثيرا من الإعلانات التجارية بطبيعتها قابلة لخدمة أهداف الغزو الفكري و الثقافي وأغراضهما و لو لم يكن ذلك في نيتهم ذلك ؛ علما بأن الأعمال بالعواقب لا بالنيات فقط وكما يقال ( الطريق إلى الجحيم معبد – مرصوف – بالنوايا الطيبة و الحسنة ) و لذا فان كثيرا من الأعمال والممارسات و النشاطات ربما تؤدي إلى نتائج سلبية غير متوقعة وغير مرغوبة فيها كما هو ملاحظ فيما يخص الإعلانات التجارية .
و من جهة أخرى ينبغي الإشارة إلى أن أكثر مسؤولي وكالات الإعلانات التجارية من ذوي التوجهات العلمانية و ليسوا من التوجهات الاسلامية . و اذا كان الأمر كذلك ، فمن الطبيعي أن تكون الاعلانات ذات طابع علماني وغير ملتزم بالمبادئ و القيم الإسلامية كما يظهر بوضوح في أكثر الاعلانات التجارية المنشورة في وسائل الإعلام المرئية و المسموعة والمقروءة ، سواء كانت ذات التوجه العلماني أو التوجه الإسلامي . و أضف إلى ذلك كثيرا من الإعلانات التجارية التي يتم اعدادها في الدول الغربية و تحمل سمات الثقافة الغربية و عناصر من ممارسات وسلوكيات غربية مخالفة للثقافة الاسلامية ثم يتم عرض هذه الإعلانات و نشرها في الدول الإسلامية بجانب الدول الأخرى و بهذه الطريقة تشكل الإعلانات التجارية الغربية قناة من قنوات الغزو الثقافي و الفكري بتلقينها مباشرة أو غير مباشرة للثقافة و القيم الغربية المخالفة للثقافة الإسلامية .
نعم ، المآخذ نفسها صحيحة فيما يخص الأفلام الغربية أيضا و لكن الإعلانات التجارية تبدو أكثر خطورة نظرا لانتشارها أكثر من الأفلام و ذلك من خلال القنوات التلفزيونية و لتكرارها يوميا و على مدار 24 ساعة و هذا القصف الإعلاني يؤدي في نهاية المطاف إلى غسل العقول وفق ايديولوجية علمانية و رأسمالية. و لا شك في أن هذا الأمر نوع من الغزو الثقافي و الفكري و لو بشكل غير مباشر و عن غير قصد .
الأمر الذي يشير بوضوح إلى خطورة الاعلانات التجارية السلبية و أضرارها و إلى ضرورة اتخاذ اجراءات على مستوى الحكومات و المجتمعات المدنية في العالم الاسلامي .
3 – وسائل الاعلان :
يمكن تصنيف جميع وسائل الإعلان في ثلاث مجموعات :
المرئية : التلفزيون – الأنترنت – الجوال – الأفلام في دور السينما .
الصوتية : التلفزيون و الإنترنت و الإذاعة – الأقراص و الأشرطة .
المقروءة : الكتيبات و البروشورات و التغليف و التعليب – – اللافتات – الباصات – الجدران .
ونفيدكم علما بأن الملاحظات المذكورة على الإعلانات التجارية تشمل جميع أنواع وسائل الاعلان و لكن التلفزيون تحديدا يقتضي دراسة مستقلة نظرا لأهميتها و خطورتها بسبب انتشارها ؛ و ذلك لأنه وسيلة تتيح للمشاهدين فرصة التعرف على عالم بلا حدود و يمكنهم من التجوال في عوالم افتراضية مثالية ليس فيها أدنى سلبية أو خلل أو خطأ و ينشط مخيلتهم ليقوموا بإضافة مزيد من العناصر إلى هذا العالم المثالي الخيالي مستغرقين في أحلامهم الوردية الى أن يفيقوا و يواجهوا عالما آخر حقيقيا و مليئا بالسلبيات بجانب الإيجابيات.
وهنا تأتي ضرورة التنبيه على أمر مهم للغاية و هو أن الأغلبية الساحقة لوكالات الإعلانات التجارية في العالم الإسلامي يمكن تصنيفهم في طبقة أو فئة العلمانيين أو غير ملتزمين بالقيم الإسلامية و تعاليمها.
4- المعلن اليه .
المعلن إليهم هم المسلمون – بالدرجة الأولى – الذين يشاهدون الإعلانات و يصغون إليها دون ادراك منهم أنهم يقدمون بذلك أكبر دعم لمثل هذه الإعلانات التجارية السلبية والمضرة على طبق ذهبي و لذلك يمكن القول بأن مسؤولية المعلن إليهم لا تقل عن مسؤولية المنتجين والناشرين لهذه الإعلانات التجارية ذات الطابع التضليلي و السلبي .
إن ظاهرة الإعلانات التجارية في العالم الإسلامي عموما و في الأوساط الإسلامية تحديدا ، لها دلالاتها الايديولوجية و الاجتماعية والفردية والسلوكية والنفسية و الاقتصادية و الثقافية و هي دلالات أكثرها سلبية ومنها :
إن الإعلانات التجارية وراءها رؤية عالمية علمانية و فكرة مادية و أيديولوجية رأسمالية و ثقافة استهلاكية ومقاربة أنانية وعقلية مصلحية و ذهنية نفعية . و هذه الأيديولوجية لا تعترف بالمبادي و القيم و الأخلاقيات ولا تحترم العقائد و الفلسفات المتحدية لها و بالتالي لا تعرف حدودا و لا تحترم القيم الاخلاقية و لا تعترف بالمبادئ السامية و المبدأ الوحيد الذي يعرفه و يعترف به و يحترمه هو تعظيم الأرباح و المصلحة الشخصية (الفردية أو المؤسساتية دون المصلحة العامة ) و الثقافة الوحيدة التي تعترف بها و تحترمها هي ثقافة الاستهلاك و الاستهلاك الجنوني تحديدا .
الإعلانات التجارية في الوقت الراهن قد تجاوز أن تكون دعاية أو تعريفا و اعلانا عن نزول المنتجات من السلع و الخدمات في السوق لعرضها على المستهلك ، بل تحولت الى نوع من عملية غسيل عقول المشاهدين والسامعين والقارئين للإعلانات التجارية . و بهذه الملاحظة تتبين أن الأمة الإسلامية معرضة لعملية غسيل العقول الأيديولوجية يوميا و على مدار 24 ساعة .
و من جهة أخرى يتبين من الملاحظات السابقة أيضا بأن الخطر ليس على قطاع معين وضيق من العالم الإسلامي ، بل الخطر و التهديد شاملان لجميع أفراد الأمة الإسلامية و مجتمعاتها و جماعاتها و قطاعاتها المختلفة وكذلك يشملان الرجال و النساء و الكبار و الصغار والفقير و الغني و المحروم و الثري دون استثناء ، اللهم إلا الذين يعيشون في المناطق النائية بعيدا عن القنوات التلفزيونية و الإذاعات و الجرائد و المجلات و ما أقلهم ، بل هم أقل من القليل ! لأنه أصبح اليوم من شبه المستحيل تصور بيت ليس فيه جهاز التلفزيون أو الراديو .
و لا شك أن الخطر الأكبر يواجه أجيال المستقبل للأمة الإسلامية ، أقصد بذلك الصغار و الأطفال و الشباب الذين يتعرضون كل يوم و كل ساعة لقصف الإعلانات التجارية بشكل متواصل و بأشكال متجددة و بأساليب متفننة و بتقاني متطورة .
أمام هذا المشهد لا يملك إنسان – فضلا عن مسلم – نفسه من أن يفكر بأن ظاهرة الإعلانات التجارية بهذه السلبيات مرشحة لتصبح من المشكلات العالمية كنتيجة طبيعية لما يسمى بالعولمة . و على المسلمين أن ينتبهوا أمام هذه التطورات المهددة لمستقبل البشرية عموما و لمستقبل الأمة الإسلامية خصوصا و يتأهبوا لمكافحة الإعلانات السلبية و المهددة لقيمنا و مبادئنا و أخلاقنا وعقيدتنا.
و لذا أصبح اليوم الإعلانات التجارية بجميع أنواعها و بمختلف أشكالها من أهم المشكلات و القضايا المستقبلية. و من أجل ذلك يقع اليوم على عواتق المسلمين مسؤولية القيام بمعالجتها مع الإدراك بخطورة الأمر أولا ، ثم عليهم أن يقوموا بدراسة ظاهرة الإعلانات التجارية من عدة جوانب و يناقشوا سبل و وسائل إيجاد البدائل لها و يكرسوا جهودهم لمكافحة سلبيات هذه الظاهرة و أضرارها و من أهمها :
آثار الإعلانات التجارية في بنية الأسرة . و منها تزايد الرغبات بين أفراد الأسرة في شراء المنتجات و الصعوبات التي تواجهها الأسرة في تلبيتها عند ذوي الدخل المحدود و منها تأثر سلوك الأولاد بأساليب الحياة الفاخرة و ضغوطاتهم بذلك على أولياءهم لشراء الكماليات دون الضروريات و الحاجيات و تعرضهم للغزو الثقافي وابتعادهم عن الهوية الإسلامية بتخليهم عن القيم المؤسسة للحضارة الإسلامية .
هذا من جهة البنية الأسرية و أما من جهة الطبقات الاجتماعية ، فان الآثار السلبية قد تشكل خطرا أكبر مما يتصوره الكثير و ذلك لأن أفراد الطبقات الفقيرة هم آخر الناس وصولا إلى أكثر المنتجات و الخدمات المعلن عنها و أقلهم قدرة على شرائها واقتنائها . الأمر الذي قد يؤدي إلى الكراهية والبغض و الخصومة و العدوان على الطبقات الغنية و أصحاب الثروات أو يجبرهم إلى القيام بممارسات غير شرعية ضد النظام السياسي والاقتصادي و الاجتماعي ، انتقاما من أصحاب السلطات و الثروات . و هناك احتمال آخر و هو احتمال التزايد في نسبة جرائم السرقة و الغصب و النهب و الرشوة و الفساد و غير ذلك من الأمراض الاجتماعية .
و مما تجدر الاشارة إليه أنه لا بد من تناول الموضوع من زاوية مبدأ التعاطف في عصر انتشرت فيه فكرة الأنانية و المصلحية والنفعية و الانتهازية انتشارا رهيبا حتى في كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة . انطلاقا من مبدأ التعاطف يمكن القول بأن الجماهير من القطاعات الفقيرة سوف لا يملكون أنفسهم من اتباع فكرة أن الإعلانات التجارية تعني السخرية منهم ؛ لأن الصورة التي تقدمها الإعلانات ، عالم مستحيل الوصول اليه و لو عاشوا عمر نوح عليه السلام ، ان كنا نريد أن نكون صريحين و واقعيين . لا شك أن مثل هذه الممارسات التي قد تعني السخرية و الازدراء بالفقراء مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يدعو إلى الأخوة و العدالة الاجتماعية و التعاطف كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ، بل الاسلام لا يقف عند هذا الحد و يتقدم إلى الأمام خطوة أخرى و يدعو المسلمين إلى الانتقال من ثقافة التعاطف إلى ثقافة الإيثار بقول الله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) . و في ضوء هذه المبادئ و القيم ، ليس من المبالغ أن توصف أكثر الإعلانات التجارية بأنها مخالفة لتعاليم الاسلام الاجتماعية التي تتمحور حول فكرة الأخوة و التعاون و التعاطف و ثقافة الإيثار ، فهي ثقافة جنونية عند من يؤمن بالقيم العلمانية الرأسمالية مثل الطمع والجشع والأنانية، والطموح بدلا من القيم الإسلامية المذكورة .
هذا من جهة النظرية و أما من جهة العمل و الممارسة ، فوضع الأمة الإسلامية مؤسف جدا باعتبار أن هذه القيم لا تتجاوز الإطار الخطابي لتدخل في الإطار العملي لترجمتها إلى أرض الواقع و بالتالي تبقى هذه القيم الإسلامية كقشرة جافة وفارغة وكتمنيات بطرف اللسان . ولا عبرة بمثل هذه التمنيات ما لم تغير من الواقع شيئا كما قال المثل : (التمني رأس مال المفلسين) أو كما قال موليير(Molière) Poquelin : Jean-Baptiste (الناس مسؤولون عما عملوا من السيئات كمسؤوليتهم عما لم يعملوا من الصالحات ) و كما قال فولتير(Voltaire) 🙁 كل مسؤول عن كل ما لم يفعل من الخير )
موقف المشاهد المسلم من الإعلانات بصفته „المعلن اليه “ :
يمكن القول بدون تردد بأن ردود المسلمين للإعلانات التجارية المخالفة و المضرة للقيم الاسلامية و الإنسانية ضئيلة و منفعلة وسلبية إلى حد كبير . و الدليل على ذلك غياب ردود تذكر و فقدان محاولات يحتذى بها ، فردية كانت أم جماعية أم مجتمعية . ولا يعلم – حسب علمنا كناشط مدني منذ أكثر من عشرين سنة – حتى الآن في العالم الإسلامي حضور حركة مدنية منظمة و منسقة و لا موجة اجتماعية شاملة من أجل الوقوف في وجه مخاطر الإعلانات التجارية السلبية ؛ و لم نسمع صوتا عاليا بهذا الشأن من أحد الرؤساء و الزعماء و الوزراء والشيوخ و الدعاة و لا من الأحزاب السياسية والحركات الاسلامية و الجماعات الدينية و الطوائف الدينية ولا من المؤسسات الدينية و مسؤوليها و لا من المؤسسات التعليمية و أساتذتها و لم نشهد منهم جهدا متواصلا و مكثفا . بل كل ما شهدناه و نشهده ، أصوات خجولة و ضئيلة و جهود مجزأة و مشتتة و غير منسقة تنسيقا يشمل جميع الجهات المعنية على مستوى العالم الإسلامي .
الاقتصاد الإسلامي بين متطلبات السوق و بين القيم الإسلامية :
تبين نتيجة لكل هذه الملاحظات أن كثيرا من الإعلانات التجارية في العالم الإسلامي اليوم معللة بعلل مختلفة من منظور إسلامي . و في هذا السياق سؤال حتمي يطرح نفسه : ما هو حل هذه المشكلة من زاوية المستهلك و المنتج كجزأين أساسيين للنشاط الاقتصادي ؟
ليس من المعقول و لا من الحكمة اللجوء إلى منطق التحريم و المنع بحكم القانون ، لأن المشكلات لا تحل بالإكراه و الضغط و القمع و لا يستفاد من مثل هذه الممارسات القمعية سوى تأجيل المشكلات أو التغطية عليها . والحل الأمثل- برأيي – لجميع الأطراف هو الحل الذي يمكن التوصل إليه في ضوء مفهوم ( السوق الحر ) إن كانت الأسواق حرة حقا ؟ و بفضل مفهوم ( الحرية) و في ضمن القواعد و النظم الشرعية يمكن اتباع الخطوات العملية التالية :
1 – تقوية الوعي ونشره في أن التفكير الاقتصادي السائد في العالم و كذلك العقلية الاقتصادية السائدة و الموجهة للنشاطات الاقتصادية في العالم الإسلامي ، تفكير أقرب إلى الرسمالية منه إلى الإسلام وبخاصة في مجال الإعلانات التجارية . و على المسلمين أن يعكسوا هذا التوازن لصالح القيم الإسلامية .
2 – إن الإعلانات التجارية تبدو في الأوضاع الراهنة أمرا ضروريا لدفع عجلة الاقتصاد و لكن بشرط أن تبقى في حدود التعريف بالمنتجات و الإعلان عنها دون محاولة لتوجيه سلوك المستهلكين بغسيل عقولهم بغية تحويلهم إلى إنسان آلي(automaton) أو إلى روبوت (android) ينفق أمواله تلقائيا و دون حاجة إليه و بشكل جنوني كما يجب ن تكون الإعلانات محترمة للقيم والقواعد الإسلامية والمبادئ الإنسانية السامية ، متجنبةً التضليل و الغش و الخداع و الإغراء .
3 – بإمكان الجماهير الواسعة من المستهلكين توجيه ( السوق الحر ) بطرق شرعية ، مثل تشجيع الاعلانات التجارية السليمة وصناعة السوق بإيجاد الطلب للسلع و الخدمات التي يتم الاعلان عنها ملتزمة بالقيم الأخلاقية و متجنبة من التضليل و الغش و الخداع و غسيل العقول .
4 – ومن الطرق الشرعية أيضا لتوجيه السوق الحر ، الاستعانة بالحريات المدنية مثل حق الاستنكار والمقاطعة و إطلاق حملة التوقيع ضد الإعلانات التجارية السلبية و إلقاء محاضرات و تنظيم ندوات ومؤتمرات و إعداد برامج تلفزيونية و إذاعية و مظاهرات و إرسال رسائل نصية قصيرة و إرسال فاكسات و اتصال هاتفي أو مقابلة شخصية مع المسؤولين أو إرسال رسائل إلكترونية أو حملة توقيع إلكتروني أو ألواح الجدران واللافتات والاستعانة بإمكانيات الأدب أو الفنون الجميلة أو التشكيلية و إنتاج أفلام أو تأليف موسيقى أو تنظيم حفلة موسيقية و مسرحية أو غير ذلك من الإمكانات الهائلة و الوسائل المتوفرة أو الطرق الشرعية و السبل السهلة والخطوات البسيطة . و كل ما يحتاج إليه المسلم للاستعانة بهذه الإمكانيات والاستفادة منها ، هو أن يتحلى بالشجاعة المدنية قليلا : ( ينبغي أن يكون الشرفاء شجعانا بقدر شجاعة الوُضعاء على الأقل ).
5 – تأصيل هذه المقاربة تأصيلا عاما بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و تأصيلا دقيقا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل ، فان لم يستطع فبلسانه ، فان لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان ) مع العلم بأن الواجب أن يبدأ المسلم بمبادرة التغيير ولا ينتقل إلى الخطوة الثانية إلا بعد تجربة الخطوة الأولى و بعد تأكيدها أنها محاولة غير ناجحة ومجدية .
6 – التغيير باليد لا يعني بالضرورة اللجوء إلى استخدام القوة و الشدة والعنف ، بل الكثير من الطرق الشرعية المذكورة أعلاه تعتبر من باب التغيير باليد باستخدام الحقوق المدنية دون اللجوء إلى أدنى قدر من العنف .
نتائج و فوائد :
فوائد أولية للدراسة :
– وراء كل إعلان تجاري فلسفة أو رؤية عالمية أو ذهنية معينة و الفلسفة المهيمنة حاليا هي العلمانية المادية ، و الذهنية المهيمنة هي التي تعتبر الملكية و التملك مصدرا للسعادة و هي نفس الذهنية التي انتقدها إرييك فروم (ERICH FROMM)في كتابه “ التملك والكينونة „(TO HAVE OR TO BE )
– إن أكثر الإعلانات التجارية من إنتاج وكالات الإعلان ذات التوجهات العلمانية الرأسمالية و من ناتج الذهنية القائلة بأن ( الغاية تبرر الوسيلة ) ولا وجود يذكر لوكالات الإعلانات الملتزمة بالمبادئ و القيم الإسلامية و الأخلاقية . فأبواب الإعلانات التجارية مفتوحة على مصراعيها لذهنية غير مؤمنة بضرورة الالتزام بالمبادئ و القيم الإسلامية والأخلاقية و الإنسانية عند تعارض المصالح التجارية مع القيم و المبادئ السامية.
– و من السلبيات أيضا الفراغ القانوني في مجال الإعلانات التجارية ؛ لأن أغلبها يتم عرضها في وسائل الإعلام بلا قيود و لا تحذيرات خلافا لبعض الأفلام المعروضة في القنوات التلفزيونية .
استنباطات ثانوية :
– أمام فشل المسلمين في قراءة الواقع (هنا في قضية الإعلانات التجارية بالتحديد) و فشلهم أو – بتعبير أكثر إنصافا – عجزهم عن الدفاع عن أنفسهم أمام ما تعرضوا من قصف الإعلانات التجارية و بقاءهم عرضة لنوع من الغزو الثقافي بدون حصانة ، يجب التطرق الى أسباب هذه الظاهرة المؤسفة والمخجلة أيضا . و إليكم أهم هذه الأسباب :
– أولا : ضرورة تفعيل إسلام عامل و وظيفي مقابل إسلام سلبي غير وظيفي ومعطل ، لأن هذه الظاهرة السلبية لها ارتباط وثيق بواقع الأمة و بتصورها عن الإسلام ، لأنها ظاهرة أثبتت مرة أخرى بأن الأمة الإسلامية بحاجة إلى مراجعة نفسية و نقد ذاتي فيما يتعلق بتصورها عن الإسلام والأمة الإسلامية ودورهما في الحياة والكون في الظروف و الأوضاع المعاصرة .
– ثانيا : تبين من هذه الدراسة أيضا أن المسلمين عليهم أن يدركوا كل الإدراك بأنهم أمام مرحلة جديدة ومختلفة تماما عن الماضي و أنهم أمام حقيقة اسمها التغيير الاجتماعي .
– ثالثا : إن استمرارية كيان الامة الاسلامية بهويتها وقيمها في المستقبل منوطة بتحديد المستجدات من التحديات و المشكلات و التطورات و ترتيبها حسب الأولوية لدراستها و معالجتها .
– رابعا : كذلك تبين بأن مركبة الأمة تنزلق في مسيرتها الحضارية و اتضح بأنه لا يمكن مواصلة المسير في سباق الحضارات المعاصرة دون دفع المركبة ، أي مكتفيا بالخطاب دون العمل . الأمر الذي يدعو إلى ضرورة تعزيز تصور اسلامي ذو توجه عملي دون الهروب من الواقع إلى الماضي و بعيدا عن الموقف الدفاعي و عن الاقتصار على الشكاوي و التحدث مع النفس و التذمر..
– خامسا : ضرورة تغيير المنهج للوصول إلى الهدف المذكور : من ( الاكتفاء بقراءة النصوص دون قراءة الواقع) إلى ( قراءة الواقع ثم قراءة النصوص في ضوء هذه القراءة ) لتقديم تصور إسلامي واقعي بعيدا عن الماضوية ، أو بتعبير آخر ضرورة الانتقال من التصور التقليدي للفقه و الفتوى إلى تصور جديد للفقه و هو الفقه الاجتماعي و أصوله ، جمعا بين النظرة الفقهية و النظرة الاجتماعية .
– سادسا : ضرورة ترجمة مبدأ ( الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ) إلى الواقع بوضعه حيز التطبيق المؤسساتي من خلال المجتمع المدني دون الانتظار إلى أو الاقتصار على الإجراءات الحكومية الرسمية .
– سابعا: ضرورة وضع الإعلانات التجارية في أجندة المسلمين عامة و في أجندة و برامج الحركات الإسلامية و الأحزاب السياسية و الجماعات الإسلامية تحديدا . و ذلك استعدادا للمبادرات المستقبلية للحد من سلبيات الإعلانات التجارية.
– ثامنا : توسيعا لدائرة المكافحة ضد سلبيات الإعلانات التجارية ينبغي التفكير في تشكيل جبهة عالمية ، منطلقة من مبدأ و نموذج ( حلف الفضول ) نظرا لسيطرة ظاهرة العولمة السلبية التي بحاجة إلى حركة اجتماعية مضادة لتحقيق سيادة ظاهرة عولمة الإيجابيات . وذلك قياما بأحد أوجب الواجبات الإسلامية في هذا العصر و هو واجب تكوين أمة قائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و ذلك تحقيقا
لقوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )
و لقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) و لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) .
و ختاما :
واضح كل الوضوح بأن الأمة الإسلامية اليوم تعيش تجربة مختلفة تماما عما عاشتها في القرون الغابرة و تمر بمرحلة صعبة لتختبر نفسها : هل ستنهض من ركودها حضاريا و هل ستتغلب على الأزمات والمشكلات و المعضلات الاجتماعية و السياسية والاقتصادية والفكرية و الثقافية أم لا ؟ جواب هذا السؤال الكبير متوقف على عناصر كثيرة . و من أهم هذه العناصر هو أن يقرر المسلمون أن يقوموا بتغيير أنفسهم حتى يستطيعوا على تغيير غيرهم ، قياما بواجب الخلافة الكونية و لعل مسألة الإعلانات التجارية من المشكلات التي تصلح لتكون نموذجا صغيرا وجزئيا ليجربوا أنفسهم و ليختبروا قدراتهم على التغيير ؛ تغيير الفرد و المجتمع و التصور و العقلية و الذهنية والمنهج والسلوك .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
مايو 2013 – الدوحة / قطر
الملحق
أين تكمن خطورة الإعلان التجاري؟!
بقلم الكاتب: عبدالحميد غزي بن حسن
يعود ظهور الإعلان إلى عصور قديمة ـ قبل ظهور الطباعة ـ وذلك من خلال المنادات والإشارات والرموز كرسائل إعلانية إلا أن اختراع الطباعة، كان إيذاناً ببدء ثورة جديدة في تاريخ صناعة الإعلان، ففي العام 1840 طبع (وليم كاتسون) أول إعلان صغير يدعو إلى شراء كتاب ديني، قبل ذلك في العام 1591م عرف أول إعلان صغير عن طريق ألمانيا، وفي العام 1652م كان أول عهد له بالصحف الأسبوعية، إذ نشرت صحيفة إنكليزية دعوة لشراء القهوة•
أما العصر الذهبي للإعلان فلم يعرف بالتحديد إلا مع بداية الثورة الصناعية، حيث أرسى الإعلان عالمه مع التكنولوجيا، مما بات ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية، بسبب ازدياد الخبرة ومعدل التصنيع، وجعل الأمر في ارتفاع الطاقة الإنتاجية، وتوسع الأسواق، بغية التخلص من فائض الإنتاج عن طريق الإعلان في وسائل الاتصال المختلفة•
تعريف الإعلان
الإعلان، في العربية، هو المجاهرة• فلان أعلن عن شيء، أي جاهر به ونشره بين الناس، وفي تعريف أبسط للإعلان، أنه كلام تصاحبه صورة أو لا تصاحبه، تنشره الصحف والمجلات، أو تبثه الإذاعة والتلفاز أو تعرضه دور السينما على شاشاتها في الشوارع ليطلع الناس على مضمونه، ولكن التعريف العلمي المعاصر، هو: اتصال غير شخصي بمعلومات، مدفوعة الأجرة عادة، ويميل للإقناع غالباً، وذلك حول سلعة أو خدمة أو فكرة، تموله جهة ما، وعبر وسائل للاتصال عدة•
وثمة تشابه بين الإعلان والدعاية والرأي العام، في أنها جميعاً تقوم بالضغط على ضمير الفرد وترغمه على قبول أهدافها، فليس من أحد يطلبها لنفسه، كما في التعليم والتدريب مثلاً، بل تفرض عليه عنوة•
(القناع الخفي) من أخطر الأنواع
لقد أطلق عالم الاجتماع (فانس بيكر) على الإعلان التجاري، اسم (القناع الخفي)، وهو عنوان كتابه الذي ظهر للمرة الأولى في العالم، وأشار إلى خطورة هذا النوع من الإعلان عن غيره من الرسمي وشبه الرسمي والشخصي، بأنه مباشر أو غير مباشر، وقد يلجأ إلى حيل تعتمد على التأثير النفسي لغرس اسم السلعة أو الشيء المعلن عنه في نفس المتلقي، لإحداث الأثر الإعلاني المطلوب، وأشار (بيكر) في كتابه (القناع الخفي) إلى نقطة مهمة مضمونها: (إذا تركنا صناعة الإعلان من دون رقابة فسوف تسيطر على حياتنا وتأسرها•••)، حيث دخلت دول صناعية كبرى في منافسات محمومة، لغزو بعضها بعضاً من جهة، والتكالب لغزو العالم النامي، الذي صار ينعت في الأوساط الاقتصادية العالمية، بأنه (العالم الاستهلاكي) ، مما يؤكد أن حرب الإعلانات مسموح فيها استخدام كل أساليب المكر والخداع••• حتى ولو وصل الأمر إلى أن يتبرأ المعلن من أصله وجذوره، من أجل حفنة دولارات والقاعدة الذهبية في فن الإعلان، هي أنك لا تبيع السلعة ذاتها، وإنما تبيع المعنى الذي يرتبط بذهن المشتري عنها، من بيع الإحساس بالأمان وبالأهمية والخصوصية للإنسان، والحب والإحساس بالقوة، والإحساس بعمر طويل مليء بالسعادة والهناء، لدرجة يلعب علم النفس دوراً كبيراً في الإعلان، بغية اختيار مدى فاعلية الإعلان في حمل الناس على الشراء، حيث توصل علماء النفس الذين يخدمون شركات الإعلان إلى أن دواعي الإنسان ثلاث درجات• ـ الأولى: يعرف ماذا يريد بالضبط ولماذا يريده•
ـ والثانية: يعرف ماذا يريد ولكنه متأثر في ذلك بعوامل خفية•
ـ والثالثة: هي نوازع ومشاعر مبهمة لا يعرفها الإنسان وإذا عرف شيئاً عنها فهو لا يناقشها، من هنا جاء تركيز خبراء الإعلان على الدرجتين الثانية والثالثة في نفس الإنسان، ومن هنا أيضاً جاء مبدأ التحليل النفسي لسوق التجارة••• ثم أصبح الإعلان علماً، له من الخبراء يرجعون إلى علم النفس والاجتماع، يستمدون منهما أصوله، وإن كان علماً غير نافع، لكونه لا يعني إلا بالترويج للمنتج والسعي وراء المستهلك لتحقيق القدر الأكبر من الكسب المادي، على حساب أي شيء آخر، حتى ولو كان هذا الشيء يمس قيم مجتمع بأسره وأخلاقه•
ومن الآثار الهدَّامة للإقناع الخفي في التلفاز أن الإعلان التلفازي يضع المستهلك في حال تشوق وضعف وفقدان الأمان، ثم فجأة يخلق له سبيلاً للخلاص عن طريق السلعة التي يعلن عنها، لدرجة بات التلفاز طاغية يستبد بالإنسان عن طريق مختلف أنواع السلع والبضائع، وقوة الإعلان في الصحف ربما تكون أقل تأثيراً وسيطرة على المستهلك من التلفاز، لكن ربما يكون له أهداف أخرى تتجاوز ـ غالباً ـ مسألة تصريف المنتج إلى مسألة الغزو الفكري وترسيخ قناعات فكرية للدول ذات النفوذ وحقيقة الأمر أن خبراء الإقناع الخفي يصنعون للإنسان نفساً على هواهم، نفساً معبأة في ربطة أنيقة، كأي سلعة من السلع التي يصنعونها ويبيعونها، ونحن بني البشر لا نرضى لأنفسنا أن نكون بهذه الصورة لأن الإعلان يستغل نقاط الضعف عند الإنسان وكرامة المرأة وبراءة الطفل، واستنزاف موارد البلاد عن طريق إقناع المستهلك بأن ما لديه رديء ويجب أن يلقيه في الشارع ليشتري بدلاً منه•
وكذلك تفقد المشاهد شخصيته، وتجعله ضعيفاً أمام المغريات المادية، وتدفعه بقوة إلى هاوية النهم الاستهلاكي من خلال الإعلانات التجارية، وكذلك تترك كلمات سوقية بذيئة تظل عالقة في أذهان الأطفال والصبية، على وجه الخصوص، وكذلك تحدث نوعاً من الاضطراب النفسي المزمن في حياة الناس، وإلى الانحلال والفسق، وترسيخ إمكانية الربح السهل والسريع في عقول الصبية والشباب•
عوامل نجاح الإعلان التجاري
ثمة عوامل أسهمت في إنجاح الإعلان التجاري لدرجة أشعلت حروباً سياسية واقتصادية وعسكرية، حيث رصدت مبالغ هائلة لبث الإعلانات التجارية عبر التلفاز الأميركي•
وبلغ مجموع الإنفاق لبث الإعلانات المتعلقة بالأدوات والمعدات الرياضية خلال العام 1995م مبلغاً قدره 3.5 مليار دولار، أي ما يعادل 15% من مجموع الإنفاق من الإعلاني المتلفز، وكما لوحظ قيام عشرات مؤسسات وشركات يابانية بتوليف إعلانات خاصة لترويج منتجاتها، ولعل من هذه العوامل ما يلي:
1 ـ التكرار: ويهدف إلى تثبيت الرسالة الإعلانية في ذهن الجمهور، ويسهم في الإلحاح على القارئ لتقبل الفكرة ويتيح الفرصة لعدد جديد من أفراد الجمهور للاطلاع•
2 ـ الوقت الكافي والمناسب مهم لنجاح الإعلان•
3 ـ الاستمرار في عرض الإعلان من دون توقف حتى لا تنقطع الصلة التي تكونت بين المعلن وجمهوره من المستهلكين للمادة المعروضة•
الأثر الاجتماعي للإعلان:
الإعلان سلاح ذو حدين، وعلينا أن نعرف كيف نستخدمه، لتأثيره الخطير الدائم على أفكار الناس، الذين يتعرضون إليه من خلال الإعلان التجاري (القناع الخفي) ولا سيما ما يهدد أبناءنا، أطفال اليوم، من حدوث صراع بين الرغبات والقيود المفروضة، مما تتشكل داخل الطفل عقدة الحرمان، ويفسد أخلاقنا، ويبالغ بتجميل المنتوج، لأن غاية الإعلان التجاري، الربح، دون الاهتمام بقضايا المجتمع، وهذا الإعلان بالذات هو المسيطر حالياً عبر شاشات التلفاز والصحافة، لذا يتوجب علينا إدراك الأثر الاجتماعي الذي يتركه الإعلان إذا استخدم بشكل علمي ومدروس، فالإعلان يؤثر على أفكار الناس، ويصقل مواهبهم، ويعمق ثقافتهم، ويزيد مستوى وعيهم من خلال الحجة والمنطق العلمي، ويجب على الرسالة الإعلانية أن تطبق ضمن شروط علمية مدروسة من قبل خبراء ومتخصصين، وبدورنا علينا أن نتسلح بالوعي والثقافة أمام التيارات الغربية المقبلة من بيئات تختلف عن بيئاتنا وعادتنا وتقاليدنا، وأن تكون إعلاناتنا ذات طابع تربوي تعليمي تقدم الفائدة الكاملة لأفراد المجتمع•
المراجع
1 ـ د• حمدي حسن، الإعلان مهمة الإقناع الصعبة•
2 ـ د• مخول، مالك سليمان، عالم الإشاعة والدعاية•
3 ـ مجلة المعلومات، دمشق، العدد 96 ـ حزيران 1998م•
4 ـ مجلة نضال الفلاحين، دمشق ـ العدد 3 ـ حزيران 1997م•
5 ـ مجلة الشرطة، دمشق، العدد 381 ـ آب 1998م•
6 ـ جزيني ، إبراهيم، بناة الإمبراطوريات التلفزيونية مجلة الشاهد، السنة 11، العدد: 135 ـ ص138•
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي – وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – دولة الكويت ، العدد :532 (03.09.2010)
http://alwaei.com/topics/view/article_new.php?sdd=762&issue=467