أ.د. محمد خيرى قير باش أوغلو
عضو مؤسس لمبادرة مؤتمر الشرق
أستاذ بكلية الإلهيات بجامعة أنقرة
عضو هيئة التحرير لمجلة (الإسلاميات)بسم الله الرحمن الرحيم
حان لمنظمات المجتمع المدنى فى العالم الإسلامى وقت التدخل المباشر من أجل تحديد مصيره و مستقبله أو بعبارة أخرى لتنتقل من دور الممرضة الى دور الطبيب فى مجالات مصيرية و مستقبلية كالسياسة و الإقتصاد و الفكر والثقافة ، لأن التطورات فى العقود الأخيرة قد أثبتت بشكل واضح أن النظم و السلطات و الزعماء و الحكام الذين يحكمون البلاد الإسلامية التى تمارس المنظمات المدنية نشاطاتها فيها و تابعة لها ، ما الأكثرية الساحقة منهم إلا أعوان للغرب المستعمر و عملاء للمحتلين و مستسلمين لتعليمات و توجيهات المستكبرين كما هو المشاهد فى احتلال العراق و أفغانستان و محرقة غزة أخيرا.
مستلهما من كلام الزعيم الاسلامى البوصنى الراحل عليا عزت بيكوويج ( الفيلسوف الملك) أثناء مجزرة بوصنة و هرسك بأن التبرعات العينية و المساعدات الغذائية لا تخلص الشعب البوصنى المسلم من الإبادة و لكنها تفيد فقط أن يقتل الشعب البوصنى شبعانين، منوها الى أولية الدعم السياسى و العسكرى و يمكن القول بأن التعاون و المشاركة والتنسيق يين منظمات المجتمع المدنى فى العالم الاسلامى يجب أن يتجاوز حدود المساعدات الإنسانية والتبرعات المالية الى مجالات التعاون و المشاركة و التنسيق الفكرى و الثقافى و السياسى و الاقتصادى لضمان مستقبل العالم الاسلامى ، لأن العمل الاسلامى من دون رؤية شاملة ومستقبلية لصالح الأمة الإسلامية لن يستطع حقن دماء الأبرياء ما لم يتجه الى تغيير نظم التبعية و الخضوع و الاستسلام المؤدية الى حماية و حفظ مصالح المستعمرين المحتلين و حماية و حفظ أعراش الملوك و الأمراء و مناصب الرؤساء و كراسى الزعماء و مصالح الطبقة الحاكمة . كل عمل إسلامى فى مجال المجتمع المدنى فى مثل هذه الظروف لن يتعد أن يكون عملية تمريضية لجسم محتضر أو عملية تجميلية للإنسان الميت ما لم يتجه الى تغيير الأوضاع المتدهورة من عدة جوانب .
وهناك أمور لا بد من تحققها لترجمة هذه المقاربة المدنية الى الواقع و هى كما يلى :
1. عد الوحدة الاسلامية كقيمة أعلى حيث يتلاشى كل القيم المضادة له أمامها مثل الإعتبارات القومية و الطائفية و المذهبية أو الأيديولوجية الخ. و إعلان مبدأ (كل مقاربة قومية أو طائفية أو مذهبية إذا أدت إلى اضعاف الأمة أو تمزيقها فهى غير إسلامية و إن كانت باسم الاسلام )
2. ترتيب القضايا المصيرية لكوكبنا و للبشرية ثم ترتيب القضايا المصيرية للأمة الإسلامية من حيث الأهمية و الأولية بدءً من التسخن المناخى العالمى و التدهور البيئى و تشويه الطبيعة إلى تبذير الموارد الطبيعية و الطاقات البشرية وتمكين جميع الشعوب و الناس كافة على الأرض من الإفادة منها بالقدر اللائق و وصولا الى جميع ممارسات القمع و التدمير و الاحتلال و الاستعمار و المجاعة و القحط و الخطر النووى.
3. تبنى منطق ( حلف الفضول) لتوسيع دائرة التعاون وتقوية محور المقاومة لمواجهة التطورات المهددة للحياة البشرية و الشاملة لجميع الأمكنة و الأقاليم
دون تفريق بين العالم الإسلامى و المسيحى و الشيوعى و اليبرالى.
4. توعية منظمات المجتمع المدنى لتقوم بدور الموجه للإرتقاء بالوعى السياسى عند الجماهير الساكتة لتحويلها الى جماعات الضغت سياسيا و إقتصاديا و إجتماعيا ودوليا.
5. تبنى مبدأ الوقوف بجانب الحقوق الإنسانية و الحريات الأساسية لكل انسان بغض النظر عن عقيدته و مذهبه و جنسيته و قوميته.
6 . تشجيع المشاركة النسائية فى منظمات المجتمع المدنى و توسيع دائرة نشاطاتها و الإعتراف بحقوقها الإنسانية و حرياتها الأساسية لمزاولتها النشاطات المدنية على أكبر قدر ممكن .
وعدم تهميش المرأة فى مجال أعمال المجتمع المدنى بحجة أن دورها دور زوجة و أم فقط ، لا دور القيادة و الرئاسة و الزعامة، و السماح لها ليلعب دورا يوازى دور الرجل .
7. الوقوف ضد ممارسات القمع و الضغط و الإستبداد بكل أنواعها و الوقوف بجانب مبدأ المعارضة و حق الإختلاف مع مراعاة مبدأ (إختلاف الرأى لا يفسد من الود قضية).
8. اتخاذ الشورى منهجا لإتخاذ القرارات لضمان مشاركة مباشرة و فعالة و الإعتراف بإلزامية نتائج الشورى حتى بالنسبة للرؤساء و الزعماء و القادة خلافا لمن يراها استشاريا أو توصية .
9. تبنى مبدأ الشفافية و القابلية للمراقبة و المحاسبة سدا لأبواب الفساد و منعا لاتهامات التمويل غير الشرعى
10 . تأسيس شبكة إعلامية للتواصل و الإتصالات المباشرة و تنسيق الأعمال و توسيع دائرتها لتشمل منظمات المجتمع المدنى فى خارج العالم الإسلامى لتشكيل كتلة أو جبهة مقاومة ضد جميع التطورات المهددة للكيان البشرى على وجه الأرض.
11. و لعل من أكبر المشكلات و أخفاها و أعضلها هو فى مجال غير متوقع للكثيرين ألا و هو التصورات السائدة عن الإسلام و الرهبة أو التخوف من مراجعتها مراجعة علمية
للتأكد من سلامتها و مطابقتها للقرآن و السنة القطعية خلافا لمن يعتقد أن تصورنا عن الإسلام أمر مفرغ منه و يظن أن هناك مطابقة تامة بين الإسلام الحقيقى و بين تصوراتنا عنه رغم ما يثبت خطأ هذا الإعتقاد وهذا الظن من الدراسات و الكتابات و الخطابات فى القرن الأخير بالتحديد .
12. ضرورة التوجه الى مجالات جديدة للعمل المدنى و من أهمها العولمة ونمط الإستهلاك و الرأسمالية و ما تسببت من الأضرار على معنويات و سلوك الجماهير فى كثير من البلاد الاسلامية من انتشار الفساد والتنازل عن المبادئ الاسلامية بحجة السياية البراغماطية و الحظية وثقافة الاستهلاك والميل الى مجتمع الإستهلاك و شيوع التبذير و الإستهلاك الكمالى و الخلاعة و قلة الحياء كما هو الملاحظ فى تركيا و لبنان و دول الخليج تحديدا.
13. هناك خطر شديد الخطر على الأمة الإسلامية و مستقبلها لا من حيث التهديدات العسكرية أو الإستعمارالإقتصادى أو التدمير أو الإبادة ، بل هناك خطر أكبر من ذلك بكثير ألا و هو محاولة تغيير البنية الجينية للإسلام ضمن مشاريع استعمارية جديدة مثل (مشروع الشرق الأوسط الكبير) أو (مشروع الإسلام المعتدل) أو ( مشروع الإسلام الأوربى) أو (مشروع العثمانيين الجدد ) علما بأن كثيرا من الزعماء و الرؤساء و الحكام و الملوك و الأمراء لبعض البلاد الاسلامية أعلنوا تأييدهم و صرحوا مشاركتهم الفعالة فى مثل هذه المشاريع دون حاجة الى إخفاءهاأو كتمها واللافت للإنتباه أن هناك أيضا طبقة ممن يسمى أنفسهم علماء و مفكرين و شيوخ استوظفوهم أصحاب هذه المشاريع وهناك منظمات المجتمع المدنى أو جماعات إسلامية أو طرق صوفية كإمتداد لهذه المشاريع أو كحصان طروا يواصلون أعمالهم ضمن هذه المشاريع تحت شعارات خادعة مثل ( الحوار أو التسامح أو مكافحة الإرهاب أو اتفاق أو تحالف الحضارات) ناسيا أو تناسيا أن الحضارة الغربية و على رأسها الولايات المتحدة و إنكلترا و اسرائيل هى كبرى دول إرهابية تمارس الإرهاب بشكل منظم و مخطط كجزء من سياساتها الإستعمارية
و من المؤسف جدا أن يوجه المسلمون فى بعض البلاد الإسلامية حكومة و شعبا بعضهم على بعض تهمة الإرهاب لمصالحهم السياسية أو القومية أو الطائفية أو المذهبية الضيقة دون انتباه الى أمر جد خطير و هو أنهم بذلك يقدمون للدول المستعمرة و المحتلة مبررا لممارساتها العدوانية باسم ( الحرب ضد الإرهاب أو مكافحة الإرهاب)
و يقوون يد العدو بسبب نظرتهم القصيرة .
الكلمة الأخيرة :
إن العالم الإسلامى فى القرن الحادى و العشرين يقف حائرا فى منعطف تاريخى فاقدا وعيه و احساسه بالجهة بسبب تخلى الجماهير الساكة عن مسؤولياتها السياسية و ترك المجال للزعماء و الرؤساء و الملوك و الحكام دون مراقبة و معارضة فعالة و
خاصة فيما يتعلق بمصير الأمة الإسلامية و ما يتعلق بمستقبل البشرية ككل .أؤكد مرة تلو أخرى بأن التجارب المرة التى عشناها سويا فى قضية فلسطين و العراق وأفغانستان و لبنان أثبتت بشكل واضح أن أغلبية الرؤساء و الزعماء والملوك و الحكام فى البلاد الاسلامية لا يمكن أن يلعبوا دور الريادة و القيادة الراشدة لإنقاذ الأمة مما تعانى من الأزمات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الفكرية والثقافية ولتقديم حلول صالحة و واقعية لضمان مستقبلها . الأمر الذى يحطم علينا جميعا أن نأخذ بزمام المبادرة للسعى من أجل إيجاد حلول لقضايانا المصيرية علما بأن الحكام الذين يحكمون على مصيرنا نحن الجماهير الساكة لا بيلغ نسبتهم %1 من مجموع العالم الإسلامى و لماذا نحن %99 لا ننطلق لإعطاء هم تعليمات و أوامر ليطبقوها كقرار الإمة نفسها و لمصالحها و ضمان مستقبلها لا لمصالح المستعمر أو المحتل ؟
و قد تبدوا هذه المقاربة لكثير منا كيوطوبيا لا يمكن ترجمته الى الواقع و لكن هل نحن واثقون بأننا قادرون على إجابة سؤال قد يوجهه الينا ربنا سبحانه و تعالى يوم الحساب “ هل جربت؟“
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله فلتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوالله إن الله خبير بما تعملون)
( 59/الحشر،18)
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
27.5.2009 Ankara